سورة الكهف - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)}
{سَيَقُولُونَ} الضمير فيه وفي الفعلين بعد كما اختاره ابن عطية وبعض المحققين لليهود المعاصرين له صلى الله عليه وسلم الخائضين في قصة أصحاب الكهف، وأيد بذلك قول الحسن. وغيره: إنهم كانوا قبل بعث موسى عليه السلام لدلالته ان لهم علمًا في الجملة بأحوالهم وهو يستلزم أن يكون لهم ذكر في التوراة وفيه ما فيه.
والظاهر أن هذا إخبار بما لم يكن واقعًا بعد كأنه قيل سيقولون إذا قصصت قصة أصحاب الكف أو إذا سئلوا عن عدتهم هم {ثلاثة} أي ثلاثة أشخاص {رَّابِعُهُمْ} أي جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم {كَلْبُهُمْ} فثلاثة خبر مبتدأ محذوف و{رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} مبتدأ وخبر ولا عمل لاسم الفاعل لأنه ماض والجملة في موضع النعت لثلاثة والضمير أن لها لا للمبتدأ ومن ثم استغنى عنه بالحذف وإلا كان الظاهر أن يقال: هم ثلاثة وكلب لكن بما أريد اختصاصها بحكم بديع الشان عدل إلى ما ذكر لينبه بالنعت الدال على التفضلة والتمييز على أن أولئك الفتية ليسوا مثل كل ثلاثة أصطحبوا، ومن ثم قرن الله تعالى في كتابه العزيز أخس اليحوانات ببركة صحبتهم مع زمرة المتبتلين إليه المعتكفين في جواره سبحانه وكذا يقال فيما بعد، وإلى هذا الاعراب ذهب أبو البقاء واختاره العلامة الطيبي وهو الذي أشار إلى ما أشير إليه من النكتة ونظم في سلكها مع الآية حديث: «ما ظنك باثنين الله تعالى ثالثهما» فأوجب ذلك أن شنع بعض أجلة الأفاضل عليه حتى أوصله إلى الكفر ونسبه إليه، ولعمري لقد ظلمه وخفي عليه مراده فلم يفهمه، ولم يجوز ابن الحاجب كون الجملة في موضع النعت كما لم يجوز هو ولا غيره كأبي البقاء جعلها حالًا وجعلها خبرًا بعد خبر للمبتدأ المحذوف، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك.
وتقدير تمييز العدد أشخاص أولى من تقديره رجال لأنه لا تصير الثلاثة الرجال أربعة بكلبهم لاختلاف الجنسين، وعدم اشتراط اتحاد الجنس في مثل ذلك يأباه الاستعمال الشائع مع كونه خلاف ما ذكره النحاة.
والقول بأن الكلب بشرف صحبتهم ألحق بالعقلاء تخيل شعري. وقرأ ابن محيصن {ثلاثة} بإدغام الثاء في التاء تقول أبعث تلك وحسن ذلك لقرب مخرجهما وكونهما مهموسين {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} عطف على {سَيَقُولُونَ} والمضارع وإن كان مشتركًا بين الحال والاستقبال إلا أن المراد منه هنا الثاني بقرينة ما قبله فلذا اكتفى عن السين فيه وإذا عطفته على مدخول السين دخل معه في حكمها واختص بالاستقبال بواسطتها لكن قيل إن العطف على ذلك تكلف. وقرأ شبل بن عباد عن ابن كثير {خَمْسَةٍ} بفتح الميم وهو كالسكون لغة فيها نظير الفتح والسكون في العشرة.
وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم وبإدغام التاء في السين؛ وعنه أيضًا إدغام التنوين في السين بغير غنة {رَجْمًا بالغيب} أي رميًا بالخبر الغائب الخفي عنهم الذي لا مطلع لهم عليه وإتيانًا به أو ظنًا بذلك، وعلى الأول: استعير الرجم وهو الرمي بالحجارة التي لا تيب غرضًا ومرمى للمتكلم من غير علم وملاحظة بعد تشبيهه به. وفي الكشف أنه جعل الكلام الغائب عنهم علمه نزلة الرجام المرمي به لا يقصد به مخاطب معين ولو قصد لأخطأ لعدم بنائه على اليقين كما أن الرجام قلما يصيب المرجوم على السداد بخلاف السهم ونحوه ولهذا قالوا: قذفًا بالغيب ورجمًا به ولم يقولوا رميًا به، وأما الرمي في السب ونحوه فالنظر إلى تأثيره في عرض المرمى تأثير السهم في الرمية انتهى.
وعلى الثاني: شبه ذكر أمر من غير علم يقيني واطمئنان قلب بقذف الحجر الذي لا فائدة في قذفه ولا يصيب مرماه ثم استعير له ووضع الرجم موضع الظن حتى صار حقيقة عرفية فيه. وفي الكشف أيضًا أنه لما كثر استعمال قولهم: رجمًا بالظن فهموا من المصدر معناه دون النظر إلى المتعلق فقالوا رجمًا بالغيب أي ظنًا به وعلى ذلك جاء قول زهير:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتموا *** وما هو عنها بالحديث المرجم
حيث أراد المظنون، وانتصاب {رَجْمًا} هنا على الوجهين إما على الحالية من الضمير في الفعلين أي راجمين أو على المصدرية منهما فإن الرجم والقول واحد.
وفي البحر أنه ضمن القول معنى الرجم أو من محذوف مستأنف أو واقع موقع الحال من ضمير الفعلين معًا أي يرجمون رجمًا، وجوز أبو حيان كونه منصوبًا على أنه مفعول من أجله أي يقولون ذلك لرميهم بالغيب أو لظنهم بذلك أي الحال لهم على القول هو الرجم بالغيب وهو كما ترى.
{وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} المراد الاستقبال أيضًا، والكلام في عطفه كالكلام في عطف سابقه، والجملة الواقعة بعد العدد في موضع الصفة له كالجملتين السابقتين على ما نص عليه الزمخشري، ولم يجعل الواو مانعة عن ذلك بل ذكر أنها الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالًا عن المعرفة في قولك: جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف ومنه قوله عز وجل: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن إتصافه بها أمر ثابت مستقر وهي التي أذنت هنا بأن قائلي ما ذكر قالوه عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما رجم غيرهم فهو الحق دون القولين الأولين، والدليل على ذلك أنه سبحانه وتعالى أتبعهما قوله تبارك اسمه {رَجْمًا بالغيب} وابتع هذا قوله عز وجل: {قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} وعلى إذان الواو بما ذكر يدل كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد روى أنه قال: حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها، وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والبتات.
وقد نص عطاء على أن هذا القليل من أهل الكتاب، وقيل من البشر مطلقًا وهو الذي يقتضيه ما أخرجه الطبراني في الأوسط بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: أنا من أولئك القليل، وأخرجه عنه غير واحد من طرق شتى، وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود.
وزعم بعضهم أن المراد إلا قليل من الملائكة عليهم السلام لا يرتضيه أحد من البشر، والمثبت في هذا الاستثناء هو العالمية وذلك لا يضر في كون الأعلمية له عز وجل، هذا وإلى كون الواو كما ذكر الزمخشري ذهب ابن المنير وقال بعد نقله: وهو الصواب لا كالقول بأنها واو الثمانية فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم ورد ما ذكروه من ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى في موضعه التنبيه عليه.
وقال أبو البقاء: الجملة إذا وقعت صفة للنكرة جاز أن يدخلها الواو وهذا هو الصحيح في إدخال الواو في ثامنهم. واعترض على ذلك غير واحد فقال أبو حيان: كون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شيء لا يعرفه النحويون بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلا إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالًا على المغايرة، وأما إذا لم تختلف فلا يجوز العطف، هذا في الأسماء المفردة، وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن جوز ذلك فيها.
وقد ردوا على من ذهب إلى أن قول سيبويه: وأما ما جاء بالمعنى وليس باسم ولا فعل إلى أن وليس باسم إلخ صفة لمعنى وأن الواو دخلت في الجملة بأن ذلك ليس من كلام العرب وليس من كلامهم مررت برجل ويأكل على تقدير الصفة، وأما قوله تعالى: {إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] فالجملة فيه حالة ويكفى ردًا لقول الزمخشري أنا لا نعلم أحدًا من علماء النحو ذهب إليه اه.
وقال «صاحب الفرائد»: دخول الواو بين الصفة والموصوف غير مستقين لاتحاد الصفة والموصوف ذاتًا وحكمًا وتأكيد اللصوق يقتضي الإثنينية مع أنا نقول؛ لا نسلم أن الواو تفيد التأكيد وشدة اللصوق غاية ما في الباب أنها تفيد الجمع والجمع ينبىء عن الإثنينية واجتماع الصفة والموصوف ينبىء عن الاتحاد بالنظر إلى الذات. وقد ذكر صاحب المفتاح أن قول من قال: إن الواو في قوله تعالى: {وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] داخلة بين الصفة والموصوف سهو منه وإنما هي واو الحال وذو الحال {قَرْيَةٌ} [الحجر: 4] وهي موصوفة أي وما أهلكنا قرية من القرى إلا ولها الخ، وأما جاءني رجل ومعه آخر ففيه وجهان، أحدهما أن يكون جملتين متعاطفتين وثانيهما أن يكون آخر معطوفًا على رجل أي جاءني رجل ورجل آخر معه، وعدل عن جاءني رجلان ليفهم أنهما جاءا مصاحبين، وأما الواو في مررت بزيد وفي يده سيف فإنما جاز دخولها بين الحال وذيها لكون الحال في حكم جملة بخلاف الصفة بالنسبة إلى الموصوف فإن جاء زيد راكبًا في حكم جاء وهو راكب بخلاف جاء زيد الراكب فافهمه.
سلمنا أنها داخلة بين الصفة والموصوف لتأكيد اللصوق لكن الدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر غير مسلم وأين الدليل عليه؟ وكون الواو هي التي آذنت بأن القول المذكور عن ثبات علم وطمأنينة نفس في غاية البعد، والقول بأن الاتباع يدل على ذلك إن أريد منه أنه يدل على إيذان الواو بما ذكر فبطلانه ظاهر وإن أريد منه أن يدل على صدق قائلي القول الأخير وعدم صدق قائلي القولين الأولين فمسلم أن إتباع القولين الأولين برجما بالغيب يدل على عدم الصدق دلالة لا شبهة فيها لكن لا نسلم أن عدم اتباع القول الأخير به واتباعه بما اتبع يدل على ذلك وإن سلمنا فهو يدل دلالة ضعيفة، ولا نسلم أيضًا دلالة كلام ابن عباس على ما ذكر، والظاهر أنه علم أن القول الأخير صادق من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وأن مراده من قوله حين وقعت الواو انقطعت العدة أن الذي هو صدق ما وقعت الواو فيه وانقطعت العدة به، فالحق أن الواو واو عطف والجملة بعده معطوفة على الجملة قبله. وانتصر العلامة الطيبي للزمخشري وأجاب عما اعترض به عليه فقال: اعلم أنه لابد قبل الشروق في الجواب من تبيين المقصود تحريرًا للبحث فالواو هنا ليست على الحقيقة ولا يعتبر في المجاز النقل الخصوصي بل المعتبر فيه اعتبار نوع العلاقة، وذكروا أن المجاز في عرف البلاغة أولى من الحقيقة وأبلغ وأن مدار علم البيان الذوق السليم الذي هو أنفع من ذوق التعليم ولا يتوقف على التوقيف وليس ذلك كعلم النحو، والمجاز لا يختص بالاسم والفعل بل قد يقع في الحروف.
وقد نقل شارح اللباب عن سيبويه أن الواو في قولهم: بعت الشاة ودرهمًا عنى الباء، وتحقيقه أن الواو للجمع والباء للإلصاق وهما من واد واحد فسلك به طريق الاستعارة وكم وكم، وإذا علم ذلك فليعلم أن معنى قوله: فائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف أن للصفة نوع اتصال بالموصوف فإذا أريد توكيد اللصوق وسط بينهما الواو ليؤذن أن هذه الصفة غير منفكة عن الموصوف وإليه الإشارة فيما بعد من كلامه، وإن الحال في الحقيقة صفة لا فرق إلا بالاعتبار ألا ترى أن صفة النكرة إذاتقدمت عليها وهي بعينها تصير حالًا ولو لم يكونا متحدين لم يصح ذلك، ثم إن قولك: جاءني رجل ومعه آخر وقولك: مررت بزيد ومعه آخر لما كانا سواء في الصورة اللهم إلا في اعتبار المعرفة والنكرة كان حكمهما سواء في الواو وهو مراد الزمخشري من إيراد المثالين لا كما فهم بعضهم، وأما قول الفرايدي في تعليل امتناع دخول الواو بين الصفة والموصوف لاتحادهما ذاتًا وحكمًا وهو مناف لما يقتضيه دخول الواو من المغايرة فمبنى على أن الواو عاطفة لأنها هي التي تقتضي المغايرة كما قال السكاكي وقد بين وجه مجازه لمجرد الربط.
وأما قوله في جاءني رجل ومعه آخر أنه جملتان فهو كما تراه، وأما قوله: إن جاء زيد راكبًا في حكم جاء زيد وهو راكب فمن المعكوس فإن الأصل في الحال الإفراد كما يدل عليه كلام ابن الحاجب وغيره من الأعيان، وأما تسليمه الدخول لتأكيد اللصوق ومنه الدلالة على أن الاتصاف أمر ثابت مستقر فمن العجائب فكيف يسلم التأكيد ولا يسلم فائدته، ويدفع الاعتراضات الباقية أن ما استند إليه الزمخشري ليس من باب الأدلة اليقينية بل هي من باب الإمارات وتكفي في هذه المقامات، وقال ابن الحاجب: لا يجوز أن يكون {رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} صفة لما قبل ولا حالًا لعدم العامل مع عدم الواو، ويجوز أن يكون كل منهما خبرًا بعد خبر للمبتدأ المحذوف والإخبار إذا تعددت جاز في الثاني منها الاقتران بالواو وعدمه، وهذا إن سلم أن المعنى في الجمل واحد أما إذا قيل إن قوله تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} استئناف منه سبحانه لا حكاية عنهم فيفهم أن القائلين سبعة أصابوا ولا يلزم أن يكون خبرًا بعد خبر، ويقويه ذكر {رَجْمًا بالغيب} قبل الثالثة فدل على أنها مخالفة لما قبلها في الرجم بالغيب فتكون صدقًا البتة إلا أن هذا الوجه يضعف من حيث أن الله تعالى قال: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} فلو جعل {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} تصديقًا منه تعالى لمن قال سبعة لوجب أن يكون العالم بذلك كثيرًا فإن أخبار الله تعالى صدق فدل على أنه لم يصدق منهم أحد، وإذا كان كذلك وجب أن تكون الجملة كلها متساوية في المعنى، وقد تعذر أن تكون الأخيرة وصفًا فوجب أن يكون الجميع كذلك انتهى؛ ويفهم أن الواو هي المانعة من الوصفية والداء هو الداء فالدواء هو الدواء.
وقوله: وإذا كان كذلك وجب إلخ كلام راحل عن مقتضى البلاغة لألاْن في كل اختلاف فوائد والبليغ من ينظر إلى تلك الفوائد لا من يرده إلى التطويل والحشو في الكلام، وأيضًا لابد من قول صادق من الأقوال الثلاثة لينطبق قوله تعالى: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} مع قوله سبحانه: {رَجْمًا بالغيب} لأنه قد اندفع به القولان الأولان فيكون الصادق هذا.
وتعقيبه به أمارة على صدقة وذلك مفقول على ما ذهب إليه السائل، ومع هذا أين طلاوة الكلام وأين اللطف الذي تستلذه الأفهام. وما ذكره من لزوم كون العالم بذلك كثيرًا على تقدير كون {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} استئنافًا منه تعالى لأن أخبار الله تعالى لأن أخبار الله تعالى صدق لا يخلو عن بحث لأن المصدق حينئذ هم المسلمون وهم قليل بالنسبة إلى غيرهم، ولا اختصاص للقليل بما دون العشرة وإن أخرج ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال: كل قليل في القرآن فهو دون العشرة فإن ذلك في حيز المنع ودون إثباته التعب الكثير، على أنه يمكن أن يقال: المراد قلة العالمين بذلك قبل تصديقه تعالى، ولا يبعد أن يكونوا قليلين في حد أنفسهم من المسلمين كانوا أو من أهل الكتاب أو منهما، نعم القول بالاستئناف مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وإن ذهب إليه بعض المفسرين. هذا ووافق في الانتصار جماعة منهم سيد المحققين وسند المدققين فقال:
الظاهر أن قوله تعالى: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} صفة لسبعة كما يشهد به أخواه، وأيضًا ليس سبعة في حكم الموصوفة كما قيل في {قَرْيَةٌ} في قوله تعالى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كتاب مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] حتى يصح الحمل على الحال اتفاقًا، ولا شك أن معنى الجمع يناسب معنى اللصوق وباب المجاز مفتوح فلتحمل هذه الواو عليه تأكيدًا للصوق الصفة بالموصوف فتكون هذه أيضًا فرعا للعاطفة كالتي عنى مع والحالية والاعتراضية.
وأيد ذلك أيضًا بما روى عن ابن عباس. وأورد على تعليل منعه للحالية بعدم كون النكرة في حكم الموصوفة أنه لا ينحصر مسوغ مجيء الحال من النكرة في كونها موصوفة أو في حكم الموصوفة كما في الآية التي ذكرها فقد ذكر في المغنى أن من المسوغات اقتران الجملة الحالية بالواو فليحفظ.
وقد وافق ابن مالك الرافدين له فقال في شرح التسهيل: ما ذهب إليه صاحب الكشاف من توسط الواو بين الصفة والموصوف فاسد من خمسة أوجه، أحدها: أنه قاس في ذلك الصفة على الحال وبينهما فروق كثيرة لجواز تقدم الحال على صاحبها وجواز تخالفهما في الاعراب والتعريف والتنكير وجواز إغناء الواو عن الضمير في الجملة الحالية وامتناع ذلك في الواقعة نعتًا فكما ثبت مخالفة الحال الصفة في هذه الأشياء ثبتت مخالفتها إياها قارنة الواو والجملة الحالية وامتناع ذلك في الجملة النعتية، الثاني: أن مذهبه في هذه المسألة لا يعرف بين البصريين والكوفيين فوجب أن لا يلتفت إليه، الثالث: أنه معلل بما لا يناسب وذلك أن الواو تدل على الجمع بين ما قبلها وما بعدها وذلك مستلزم لتغايرهما وهو ضد لما يراد من التوكيد فلا يصح أن يقال لعاطف مؤكد، الرابع: أن الواو فصلت الأول من الثاني ولولاها لتلاصقا فكيف يقال إنها أكدت لصوقها، الخامس: أن الواو لو صلحت لتأكيد لصوق الموصوف بالصفة لكان أولى المواضع بها موضعًا لا يصلح للحال بخلاف جملة تصلح في موضعها الحال اه، ويعلم ما فيه بالتأمل الصادق فيما تقدم.
والعجب مما ذكره في الوجه الرابع فهو توهم يستغرب من الأطفال فضلًا عن فحول الرجال فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك.
وقال بعضهم: إن ضمائر الأفعال الثلاث للخائضين في قصة أصحاب الكهف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمسلمين لا على وجه إسناد كل من الأفعال إلى كلهم بل إلى بعضهم فالقول الأول لليهود على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، وقيل لسيد من سادات نصارى العرب النجرانيين وكان يعقوبيًا وكان قد وفد مع جماعة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجرى ذكر أصحاب الكهف فذكر من عدتهم ما قصه الله تعالى شأنه، ولعل التعبير بضمير الجمع لموافقة من معه إياه في ذلك، والقول الثاني على ما روى عن السدي أيضًا النصارى ولم يقيدهم؛ وقيل العاقب ومن معه من نصارى نجران وكانوا وافدين أيضًا وكان نسطوريًا والقول الثالث لبعض المسلمين، وكأنه عز اسمه لما حكى الأقوال قبل أن تقال على ذلك لقنهم الحق وأرشدهم إليه بعدم نظم ذلك القول في سلك الرجم بالغيب كما فعل بأخويه وتغيير سبكه بإقحام الواو وتعقيبه بما عقبه به على ما سمعت من كون ذلك إمارة على الحقية، والمراد بالقليل على هذا من وفقه الله تعالى للاسترشاد بهذه الأمارات كابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقد مر غير بعيد أنه عد من ذلك وذكر ما ظاهره الاستشهاد بالواو.
وقيل إنهم علموا تلك العدة من وحي غير ما ذكر بأن يكون قد أخبرهم صلى الله عليه وسلم بذلك عن إعلام الله تعالى إياه به. وتعقبه بأنه لو كان كذلك لما خفي على الحبر ولما احتاج إلى الاستشهاد ولكان المسلمون أسوة له في العلم بذلك. وأجيب بأنه لا مانع من وقوف الحبر على الخبر مع جماعة قليلة من المسلمين، ولا يلزم من إخباره صلى الله عليه وسلم بشيء وقوف جميع الصحابة عليه فكم من خبر تضمن حكمًا شرعيًا تفرد بروايته عنه عليه الصلاة والسلام واحد منهم رضي الله تعالى عنهم فما ظنك بما هو من باب القصص التي لم تتضمن ذلك، واستشهاده رضي الله تعالى عنه نصًا لا ينافي الوقوف بل قد يجامعه بنا على ما وقفت عليه آنفًا فهو ليس نصًا في عدم الوقوف.
وقد أورد على القول بأن منشأ العلم التلقن من هذا الوحي لما تضمن من الإمارات أنه يلزم من ذلك كون الصحابة السامعين للآية أسوة لابن عباس في العلم نحو ما ذكره المتعقب بل لأنهم العرب الذين أرضعوا ثدي البلاغة في مهد الفصاحة وأشرقت على آفاق قلوبهم وصفحات أذهانهم من مطالع إيمانهم الاستوائية أنوار النبوة المفاضة من شمس الحضرة الأحدية وقلما تنزل آية ولا تلقى عصاها في رباع أسماعهم لوفور رغبتهم في الاستماع ومزيد حرصه صلى الله عليه وسلم على اسماعهم، ومتى فهم الزمخشري وإضرابه من هذه الآية ما فهموا فلم لم يفهم أصحابه عليه الصلاة والسلام ذلك وهم هم أيخطر ببال من له أدنى عقل أن الأعجام شعروا وأكثر أولئك العرب لم يشعروا؟ أم كيف يتصور تجلي أسرار بلاغة القرآن لمن لا يعرف إعجازه إلا بعد المشقة وتحجب عمن يعرف ذلك جرد السليقة؟ ولا يكاد يدفع هذا الايراد إلا بالتزام أن السامعين لهذه الآية قليلون لأنها نزلت في مكة وفي المسلمين هناك قلة مع عدم تيسر الاجتماع لهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا اجتماع بعضهم مع بعض نحو تيسر ذلك في المدينة أو بالتزام القول بأن الملتفتين إلى ما فيها من الشواهد كانوا قليلين وهذا كما ترى.
وقيل إن الضمائر لنصارى نجران تناظروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدد أصحاب الكهف فقالت الملكانية الجملة الأولى واليعقوبية الجملة لثانية والنسطورية الجملة الثالثة، ويروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وهو أولى من القول السابق المحكى عن بعضهم.
وقال الماوردي واستظهره أبو حيان: إن الضمائر للمتنازعين في حديثهم قبل ظهورهم عليهم فيكون قد أخبر سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بما كان من اختلاف قومهم في عدم، ولا يخفى أنه يبعد هذا القول من حكاية تلك الأقوال بصيغة الاستقبال مع تعقيبها بقوله تعالى: {قُل رَّبّى أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} وقد تقدم رواية أن القوم حين أتوا باب الكهف مع المبعوث لاشتراء الطعام قال: دعوني أدخل إلى أصحابي قبلكم فدخل وعمى على القوم أثرهم، وفي رواية أنهم كلما أراد أن يدخل عليهم أحد منهم رعبوا فتركوا وبنى عليهم مسجد، فلو قيل على هذا: إن الضمائر للمعثرين اختلفوا في عددهم لعدم تمكنهم من رؤيتهم والاجتماع معهم فقال كل طائفة منهم ما قالت، ولعل الطائفة الأخيرة استخبرت الفتى فأخبرها بتلك العدة فصدقته وأخذت كلامه بالقبول وتأيد بما عندهم من أخبار أسلافهم فقالت ذلك عن يقين ورجمت الطائفتان المتقدمتان لعدم ثبوت ما يفيد العلم عندهما ولعلهما كانتا كافرتين لم يبعد بعد ما نقل عن الماوردي فتدبر.
ومن غريب ما قيل: إن الضمير في {يَقُولُونَ سَبْعَةُ} لله عز وجل والجمع للتعظيم. وأسماؤهم على ما صح عن ابن عباس مكسلمينا ويمليخا ومرطولس وثبيونس ودردونس وكفاشيطيطوس ومنطنواسيس وهو الراعي والكلب اسمه قطمير، وروى عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أسمائهم يمليخا ومكشلينيا ومثلينيا وهؤلاء أصحاب يمين الملك ومرنوش ودبرنوش وشاذنوش وهؤلاء أصحاب يساره وكان يستشير الستة والسابع الراعي، ولم يذكر في هذه الرواية اسمه، وذكر فيها أن اسم كلبهم قطمير، وفي صحة نسبة هذه الرواية لعلي كرم الله تعالى وجهه مقال، وذكر العلامة السيوطي في «حواشي البيضاوي» أن الطبراني روى ذلك عن ابن عباس في معجمه الأوسط بإسناد صحيح.
والذي في الدر المنثور رواية الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح ما قدمناه عن ابن عباس والله تعالى أعلم.
وقد سموا في بعض الروايات بغير هذه الأسماء، وذكر الحافظ ابن حجر في شرح البخاري أن في النطق بأسمائهم اختلافًا كثيرًا ولا يقع الوثوق من ضبطها. وفي البحر أن أسماء أصحاب الكهف أعجمية لا تنضبط بشكل ولا نقط والسند في معرفتها ضعيف، وذكروا لها خواصًا فقال النيسابوري عن ابن عباس: إن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأس في المهد وللحرث تكتب على القرطاس ويرفع على خشب منصوب في وسط الزرع وللضربان وللحمى المثلثة والصداع والغنى والجاه والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى ولعسر الولادة تشد على الفخذ الأيسر ولحفظ المال والركوب في البحر والنجاة من القتل انتهى، ولا يصح ذلك عن ابن عباس ولا عن غير من السلف الصالح، ولعله شيء افتراه المتزيون بزي المشايخ لأخذ الدراهم من النساء وسخفة العقول، وأنا أعد هذا من خواص أسمائهم فإنه صحيح مجرب. وقرئ {وَثَامِنُهُمْ} أي صاحب كلبهم.
واستدل بعضهم بهذه القراءة على أنهم ثمانية رجال وأول القراءة المواترة بأنها على حذف مضاف أي وصاحب كلبهم وهو كما ترى {قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ} الفاء لتفريع النهي على ماقبله، والمماراة على ما قال الراغب المحاجة فيما فيه مرية أي تردد، وأصل ذلك من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب، وفسرها غير واحد بالمجادلة وهي المحاجة مطلقًا أي إذا قد وقفت على أن في الخائضين مخطئًا ومصيبًا فلا تجادلهم {فِيهِمْ} أي في شأن الفتية {إِلاَّ مِرَآء ظاهرا} غير متعمق فيه وذلك بالاقتصار على ما تعرض له الوحي المبين من غير تجهيل لجميعهم فإن فيهم مصيبًا وإن قل ولا تفضيح وتعنيف للجاهل منهم فإن ذلك مما يخل كارم الأخلاق التي بعثت لإتمامها.
وقال ابن زيد: المراء الظاهر القول لهم ليس كما تعلمون.
وحكى المارودي أن المراء الظاهر ما كان بحجة ظاهرة، وقال ابن الأنباري: هو جدال العالم المتبقين بحقيقة الخبر، وقال ابن بحر: هو ما يشهده الناس، وقال التبريزي: المراد من الظاهر الذاهب بحجة الخصم يقال ظهر إذا ذهب، وأنشد:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ***
أي ذاهب {وَلاَ تَسْتَفْتِ} ولا تطلب الفتيا {فِيهِمْ} في شأنهم {مِنْهُمْ} من الخائضين {أَحَدًا} فإن فيما أفتيناك غني عن الاستفتاء فيحمل على التفتي المنافي لمكارمخ الأخلاق إذ الحال لا تقتضي تطيب الخواطر أو نحو ذلك، وقيل: المعنى لا ترجع إليهم في شأنهم الفتية ولاتصدق القول الثالث من حيث صدوره منهم بل من حيث التلقي من الوحي، وقيل: المعنى إذ قد عرفت جهل أصحاب القولين فلا تجادلهم في شأنهنم إلا جدالًا ظاهرًا قدر ما تعرض له الوحي من وصفهم بالرجم بالغيب ولا تستفت فيهم من أولئك الطائفتين أحدًا لاستغنائك بما أوتيت مع أنهم لا علم لهم بذلك وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى.


{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23)}
{وَلاَ تَقْولَنَّ} أي لأجل شيء تعزم عليه {لِشَىْء إِنّى فَاعِلٌ ذلك} الشيء {غَدًا} أي فيما يستقبل من الزمان مطلقًا وهو تأكيد لما يدل عليه اسم الفاعل بناء على أنه حقيقة في الاستقبال ويدخل فيه الغد عنى اليوم الذي يلي يومك وهو المتبادر دخولًا أوليًا، فإن الآية نزلت حين سألت قريش النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين عليه الصلاة والسلام: غدًا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه صلى الله عليه وسلم الوحي خمسة عشر يومًا على ما روى عن ابن إسحق، وقيل؛ ثلاثة أيام، وقيل: أربعين يومًا فشق ذلك عليه عليه الصلاة والسلام وكذبته قريش وحاشاه.
وجوز غير واحد أن يبقى على المعنى المتبادر وما بعده بذلك المعنى يعلم بطريق دلالة النص.
وتقعب بأن ما بعده ليس عناه في مناطق النهي وهو احتمال المانع فإن الزمان إذا اتسع قد ترتفع فيه الموانع أو تخف وليس بشيء لأن المانع شامل للموت واحتمال في الزمان الواسع أقوى.


{إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)}
{إِلاَّ أَن يَشَاء الله} استثناء متعلق بالنهي على ما اختاره جمع من المحققين، وقول ابن عطية اغترارًا برد الطبري إنه من الفساد بحيث كان الواجب أن لا يحكى خروج عن الانصاف، وهو مفرغ من أعم الأحوال.
وفي الكلام تقدير باء للملابسة داخلة على أن والجار والمجرور في موضع الحال أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حال ملابسته شيئة الله عز وجل بأن تذكر، قال في الكشف: إن التباس القول بحقيقة المشيئة محال فبقى أن يكون بذكرها وهو إن شاء الله تعالى ونحوه مما يدل على تعليقه الأمور شيئة الله تعالى.
ورد بما يصلح أن يكون تأييدًا لا ردًا، وجوز أن يكون المستثنى منه أعم الأوقات أي لا تقولن ذلك في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله تعالى ذلك القول منك، وفسرت المشيئة على هذا بالإذن لأن وقت المشيئة لا يعلم إلا بإعلامه تعالى به وإذنه فيه فكيون مآل المعنى لا تقولن إلا بعد أن يؤذن لك بالقول. وجوز أيضًا أن يكون الاستثناء منقطعًا، والمقصود منه التأبيد أي ولا تقولن ذلك أبدًا، ووجه ذلك في الكشف بأنه نهى عن القول إلا وقت مشيئة الله تعالى وهي مجهولة فيجب الانتهاء أبدًا، وأشار إلى أنه هو مراد الزمخشري لا ما يتوهم من جعله مثل قوله تعالى: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلا أَن يَشَاء الله} [الأعراف: 89] من أن التأبيد لعدم مشيئته تعالى فعل ذلك غدا لقبحه كالعود في ملة الكفر لأن القبح فيما نحن فيه على إطلاقه غير مسلم، والتخصيص بما يتعلق بالوحي على معنى لا تقولن فيما يتعلق بالوحي إني أخبركم به إلا أن يشاء الله تعالى والله تعالى لم يشأ أن تقوله من عندك فإذا لا تقولنه أبدًا يأباه النكرة في سياق النهي المتضمن للنفي والتقييد بالمستقبل، وأن قوله: {فَاعِلٌ ذلك غَدًا} أي مخبر عن أمر يتعلق بالوحي غدًا غير مؤذن بأن قوله في الغد يكون من عنده لا عن وحي فالتشبيه في أن الاستثناء بالمشيئة استعمل في معرف التأبيد وإن كان وجه الدلالة مختلفًا أخذًا من متعلق المشيئة تارة ومن الجهل بها أخرى، ولا يخفى أن الظاهر في الآية الوجه الأولى وأن أمته صلى الله عليه وسلم وهو في الخطاب الذي تضمنته سواء مخصوصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يكون الاستثناء متعلقًا بقوله تعالى: {إِنّى فَاعِلٌ} [الكهف: 23] بأن يكون استثناء مفرغًا مما في حيزة من أعم الأحوال أو الأوقات لأنه حينئذًا إما أن تعتبر تعلق المشيئة بالفعل فيكون المعنى إني افعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت مشيئة الله تعالى الفعل وهو غير سديد أو يعتبر تعلقها بعدمه فيكون المعنى إني فاعل في كل حال أو في كل وقت إلا في حال أو وقت مشيئة الله تعالى عدم الفعل، ولا شبهة في عدم مناسبته للنهي بل هو أمر مطلوب.
وقال الخفاجي: إذا كان الاستثناء متعلقًا بـ {أني فاعل} [الكهف: 23] والمشيئة متعلقة بالعدم صار المعنى إني فاعل في كل حال إلا إذا شاء الله تعالى عدم فعلي وهذا لا يصح النهي عنه، أما على مذهب أهل السنة فظاهر، وأما على مذهب المعتزلة فلأنهم لا يشكون في أن مشيئة الله تعالى لعدم فعل العبد الاختياري إذا عرضت دونه بإيجاد ما يعوق عنه من الموت ونحوه منعت عنه وإن لم تتعلق عندهم بإيجاده وإعدامه، وكذا لا يصح النهي إذا كانت المشيئة متعلقة بالفعل في المذهبين، فما قيل: إن تعلق الاستثناء بما ذكر صحيح والمعنى عليه النهي عن أن يذهب مذهب الاعتزال في خلق الأعمال فيضيفها لنفسه قائلًا إن لم تقترن مشيئة الله تعالى بالفعل فإنا فاعله استقلالًا فإن اقترنت فلا لا يخفى ما فيه على نبيه فتأمل. وقد شاع الاعتراض على المعتزلة في زعمهم أن المعاصي واقعة من غير إرادة الله تعالى ومشيئته وإنه تعالى لا يشاء إلا الطاعات بأنه لو كان كذلك لوجب فيما إذا قال: الذي عليه دين لغيره قد طالبه به والله لأعطيتك حقك غدًا إن شاء الله تعالى أن يكون حانثًا إذا لم يفعل لأن الله تعالى قد شاء ذلك لكونه طاعة وإن لم يقع فتلزمه الكفارة عن يمينه ولم ينفعه الاستثناء كما لو قال: والله لأعطينك إن قام زيد فقام ولم يفعل، وفي التزام الحنث في ذلك خروج عن الإجماع. وقد أجاب عنه المرتضى بأن للاستثناء الداخل في الكلام وجوهًا مختلفة فقد يدخل في الأيمان والطلاق والعتاق وسائر العقود وما يجري مجراها من الأخبار وهذا يقتضي التوقف عن إمضاء الكلام والمنع من لزوم ما يلزم به ويصير به الكلام كأنه لا حكم له، ويصح في هذا الوجه الاستثناء في الماضي فيقال: قد دخلت الدار إن شاء الله تعالى ليخرج بذلك من أن يكون خبرًا قاطعًا أو يلزم به حكم، ولا يصح في المعاصي لأن فيه إظهار الانقطاع إلى الله تعالى والمعاصي لا يصلح ذلك فيها قال: وهذا الوجه أحد محتملات الآية، وقد يدخل في الكلام ويراد به التسهيل والأقدار والتخلية والبقاء على ما هو عليه من الأحوال وهذا هو المراد إذا دخل في المباحات وهو ممكن في الآية، وقد يدخل لمجرد غرض الانقطاع إلى الله تعالى ويكون على هذا غير معتد به في كون الكلام صادقًا أو كاذبًا وهو أيضًا ممكن في الآية، وقد يدخل ويراد به اللطف والتسهيل وهذا يختص بالطاعات ولا يصح أن تحمل الآية عليه لأنها تتناول كل ما لم يكن قبيحًا.
وقول المديون السابق إن قصد به هذا المعنى لا يلزم منه الحنث إذا لم يفعل، ويدين المديون. وغيره إن ادعى قصد ما لا يلزمه فيه شيء فلا ورود لما اعترضوا به، والإنصاف أن الاعتراض ليس بشيء والرد عليهم غني عن مثل ذلك، هذا ثم اعلم أن إطلاق الاستثناء على التقييد بأن شاء الله تعالى بل على التقييد بالشرط مطلقًا ثابت في اللغة والاستعمال كما نص عليه السيرافي في شرح الكتاب.
وقال الراغب: الاستثناء دفع ما يوجبه عموم سابق كما في قوله تعالى: {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوحِىَ إِلَيْكَ *مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً} [الأنعام: 145] إلخ أو دفع ما يوجبه اللفظ كقوله: امرأته طالق إن شاء الله تعالى انتهى.
وفي الحديث: «من حلف على شيء فقال: إن شاء الله تعالى فقد استثنى» فما قيل: إن كلمة إن شاء الله تعالى تسمى استثناء لأنه عبر عنها هنا بقوله سبحانه: {إِلاَّ أَن يَشَاء الله} ليس بسديد فكذا ما قيل: إنها أشبهت الاستثناء في التخصيص فأطلق عليها اسمه كذا قال الخفاجي، ولا يخفى أن في الحديث نوع إباء لدعوى أن إطلاق الاستثناء على التقييد بأن شاء الله تعالى لغوي لأنه صلى الله عليه وسلم لم يبعث لإفادة المدلولات اللغوية بل لتبليغ الأحكام الشرعية فتذكر.
{واذكر رَّبَّكَ} تعالى أي مشيئة ربك فالكلام على حذف مضاف، وذكر مشيئته تعالى على ما يدل عليه ما قبل أن يقال إن شاء الله تعالى، وقد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت {إِذَا نَسِيتَ} أي إذا فرط منك نسيان ذلك ثم تذكرته فإنه ما دام ناسيًا لا يؤمر بالذكر وهو أمر بالتدارك عند التذكر سواء قصر الفصل أم طال. وقد أخرج ابن جرير. والطبراني. وابن المنذر. وغيرهم عن ابه عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ويقرأ الآية، وروي ذلك عن أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وهو رواية عن الإمام أحمد عليه الرحمة، وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير في رجل حلف ونسي أن يستثني قال: له ثنياه إلى شهر، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن عطاء أنه قال: من حلف على يمين فله الثنيا حلب ناقة قال: وكان طاووس يقول ما دام في مجلسه، وأخرج ابن أبي حاتم أيضًا عن إبراهيم قال: يستثني ما دام في كلامه، وعامة الفقهاء على اشتراط اتصال الاستثناء في عدم الحنث ولو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام لا سيما إلى الغاية المروية عن ابن عباس لما تقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب.
ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه خالف ابن عباس في هذه المسألة فاستحضره لينكر عليه فقال له أبو حنيفة: هذا يرجع إليك إنك تأخذ البيعة بالأيمان أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن كلامه.
ومن غريب ما يحكى أن رجلًا من علماء المغرب أحب أن يرى علماء بغداد ويتحقق مبلغ علمهم فشد الرحل للاجتماع معهم فدخل بغداد من باب الكرخ فصادف رجلين يمشيان أمامه يبيعان البقل في أطباق على رؤوسهما فسمع أحدهما يقول لصاحبه: يا فلان أني لأعجب من ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف جوز فصل الاستثناء، وقال بعدم تأثيره في الأحكام ولو كان الأمر كما يقول لأمر الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام بالاستثناء لئلا يحنث فإنه أقل مؤنة مما أرشده سبحانه إليه بقوله تعالى: {فَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضرب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] وليس بين حلفه وأمره بما ذكره أكثر من سنة فرجع ذلك الرجل إلى بلده واكتفى بما سمع ورأى فسئل كيف وجدت علماء بغداد؟ فقال: رأيت من يبيع البقل على رأسه في الطرقات من أهلها بلغ مبلغًا من العلم يعترض به على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فما ظنك بأهل المدارس المنقطعين لخدمة العلم. والإنصاف أن هذا الاعتراض على علامة يستكثر ممن يبيع البقل والله تعالى أعلم بصحة النقل، لا يقال: إن ظاهر الآية على ما سمعت يطابق ما ذهب إليه الحبر وإلا لم يكن للتدارك معنى وكذا ما جاء في الخبر لما قالوا: إن التدارك فيما يرجع إلى تفويض العبد يحصل بذكره بعد التنبه أما في التأثير في الحكم حتى يخرجه عن الجزم فليست الآية مسوقة له ولا دالة عليه بوجه.
وقال بعضهم: إن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم فله عليه الصلاة والسلام أن يستثنى ولو بعد حين بخلاف غيره.
فقد أخرج ابن أبي حاتم. وابن مردويه. والطبراني في الكبير بسند متصل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت ثم قال: هي خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحدنا أن يستثني إلا في صلة يمين، وقيل ليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك من القول السابق بل من مقدر مدلول به عليه والتقدير في الآية كلما نسيت ذكر الله تعالى اذكره حين التذكر إن شاء الله تعالى، وفي الحديث لا أنسى المشيئة بعد اليوم ولا أتركها إن شاء الله تعالى أو أقول إن شاء الله تعالى إذا قلت إني فاعل أمرًا فيما بعد، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدًا.
وجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء، والمراد من ذلك المبالغة في الحث عليه بإيهام أن تركه من الذنوب التي جيب لها التوبة والاستغفار، وقيل المعنى واذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارك، وحمل النسيان على الترك مجاز لعلاقة السببية والمسببية أو اذكر ربك إذا عرض لك نسيان ليذكرك المنسي، و{نَسِيتُ} على هذا منزل منزلة اللازم، ولا يخفى بعد ارتباط الآية على هذين المعنيين بما سبق.
وحمل قتادة الآية على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها فإذا أراد أن المراد من الآية واقض الصلاة المنسية إذ ذكرتها فهو كما ترى وأمر الارتباط كما في سابقه، وإن أراد أنها تدل على الأمر بقضاء الصلاة المنسية عند ذكرها لما أنها دلت على الأمر بذكر الاستثناء المنسي، وأمر الصلاة أشد والاهتمام بها أعظم فالأمر أسهل ولكن ظاهر كلامهم أنه أراد الأول.
وأخرج ابن أبي شيبة. والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن عكرمة أنه قال في الآية: أي اذكر ربك إذا غضبت، ووجه تفسير النسيان بالغضب أنه سبب للنسيان، وأمر ذها القول نظير ما مر.
{وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبّى} أي يوفقني {لاِقْرَبَ مِنْ هذا} أي لشيء أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي {رَشَدًا} إرشادًا للناس ودلالة على ذلك.
وإلى هذا ذهب الزجاج، وقد فعل ذلك عز وجل حيث آتاه من الآيات البينات ما هو أعظم من ذلك وأبين كقصص الأنبياء عليهم السلام المتباعدة أيامهم والحوادث النازلة في الاعصار المستقبلة إلى قيام الساعة، وكأنه تهوين منه عز وجل لأمر قصة أصحاب الكهف كما هونه جل وعلا أولًا بقوله سبحانه: {أَمْ حَسِبْتَ} [الكهف: 9] الخ، وهو متعلق جموع القصة، وعطفه بعض الأفاضل على العامل في قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف} [الكهف: 10] كأنه قيل اذكر إذ أوى الفتية إلخ وقل عسى أن يهديني ربي لما هو أظهر من ذلك دلالة على نبوتي.
وقال الجبائي: هو متعلق بقوله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ} إلى آخره؛ والمعنى عنده أدع ربك سبحانه وتعالى إذا نسيت شيئًا أن يذكرك إياه وقل إن لم يذكرك سبحانه عسى أن يهديني لشيء أقرب من المنسي خيرًا ومنفعة {فهذا} إشارة إلى المنسي والرشد الخير والمنفعة و{أَقْرَبُ} على معناه الحقيقي، ولا يخفى أن هذا أقرب من جهة المتعلق وأبعد من جهات، وقيل: إنه متعلق بالمتعاطفات قبله و{هذا} إشارة ما تضمنته من الخير أمرًا ونهيًا كأنه قيل افعل كذا ولا تفعل كذا واطمع من ربك أن يهديك لأقرب مما أرشدت إليه في ضمن ما سمعت من الأمر والنهي خيرًا ومنفعة، وقد هدى صلى الله عليه وسلم في ضمن ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام بعد ذلك من الأوامر والنواهي إلى ما هو أقرب من ذلك منفعة ولا يكاد يحصى وهو كما ترى، ولعله على علاته أقرب مما نقل عن الجبائي، وقال ابن الأنباري: معنى الآية عسى أن يعرفني ربي جواب مسائلكم قبل الوقت الذي حددته لكم ويعجل لي من جهته الرشاد، ولا يكاد يستفاد هذا المعنى من الآية، وعلى فرض الاستفادة تكون نظير استفادة المعاني المرادة من المعميات ويجل كتاب الله تعالى الكريم عن ذلك.
وأخرج البيهقي من طريق المعتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يحدث عن رجل من أهل الكوفة أنه كان يقول: إذا نسي الإنسان الاستثناء فتوبته أن يقول: {عسى أَن يَهْدِيَنِى رَبّى لاِقْرَبَ مِنْ هذا رَشَدًا} وحكاه أبو حيان عن محمد الكوفي المفسر، والظاهر أنه الرجل الذي ذكره المعتمر، وهو قول لا دليل عليه.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11